Saturday, January 31, 2009

جدي



بدأ وعيي يتشكل في الخامسة من عمري ، الحفيد الأول لعائلة قروية تسكن على أطراف المدينة لا أذكر أني كنت طفلا ظريفا كثير الحركة ، بل على العكس كنت هادئا صموتا أميل إلى التأمل ، كان يكفي أنني ابن الابن الأكبر لأصبح الطفل المدلل للعائلة ، أستيقظ في الصباح الباكر و أظل أرقبهم و هم يعدون الشاي و يستعد كل للذهاب إلى عمله ، ثم يصحبني عمي إلى بائع الجرائد عند أول الجسر بين قريتنا و القرية التي تلينا و يتركني أشتري قصصي المفضلة و أعود وحدي ، أحيانا كان عالمي الصغير يتسع إلى "ما وراء الجسر" عندما يأخذني جدي أمامه على دراجته إلى حقل جدتي ، يتوقف عند بائع الجرائد ليشتري لي قصة ثم يكمل الطريق إلى الأرض حيث يضعني بجوار الحجرة الصغيرة عند رأس الحقل و يستغرق هو في فلاحة الأرض بينما أنا مستغرق في عالم آخر ، لا أذكر أني رأيت في الأرض غير أشجار الليمون و البرتقال ، لكني أذكر جيدا كم أحببت ذلك اللون الأخضر و تلك التربة الطيبة.



أخذت الأيام دورتها ، و انتقلت عائلتي الصغيرة إلى منزل آخر في قلب المدينة ، في البداية كنا نحرص على التواجد في البيت الكبير بشكل منتظم ، ثم أخذت الزيارات تقل بالتدريج ، كنت قد وصلت العاشرة و لم أعد ذلك الطفل الهاديء ، اكتسبت مسحة من شقاوة أطفال العاشرة و انشغلت في اكتشاف عالمي الجديد في المدينة و اقتصرت علاقتي بجدي على زيارة أسبوعية يأتي هو فيها على دراجته ليعطيني دروس اللغة العربية ، انتهت علاقتي بالقرية الصغيرة و لم أعد أهتم حتى بالسؤال عن أشجار البرتقال و الحقل .


استمر إيقاع الحياة الرتيب مع جدي في القرية ، يظل حتى الظهيرة منشغلا بالحضانة الصغيرة التي افتتحها في البيت الكبير بعد أن أصبح على المعاش و ترك المدرسة التي كان يديرها ، و بعد الحضانة يذهب ليطمئن على الحقل أو "الأرض" كما نسميه ، حتى عندما دخل رمضان لم يتخل عن عادته تلك ، ثم جاء يوم خرج فيه على دراجته و لم يعد ، أذكر عندما جاء عمي ليخبرنا و هو يبكي أن سيارة قد صدمته و هو في طريقه للأرض ، لم أكن أدرك وقتها معنى الموت لكني عرفت أني لن أرى جدي بعد هذا ، و لأول مرة أعرف معنى أن يفارقنا من نحبهم .


في يوم المأتم كانت المرة الأولى منذ زمن التي تتجمع فيها العائلة في البيت الكبير ، و رغم برد فبراير كان أطفال العائلة كلهم فوق السطح تاركين المأتم في الأسفل ، كان الحزن يخيم على المكان و بدون إنذار قررت السماء أن تخفف عنا حزننا و فتحت أبوابها علينا ، أمطرت كما لم تمطر من قبل ، حتى اليوم لم أر مطرا مثل هذا ، لم نركض إلى إحدى الحجرات المعروشة فوق السطح ، أسرعنا في تسلق بعض البراميل و وقفنا تحت المطر مادين أيدينا على اتساعها ، و حتى اليوم مازلت أشعر بزخات المطر على ذراعي الممدودتين ، هذا المطر الذي كان - لأول مرة - بنكهة الحزن .




أنا ما زلت أفتقدك يا جدي :)

3 comments:

key of life said...

فكرتنى بأيام زمااان كانت حلوة أوى أيام البيت الكبير دى وأفتكرت كمان يوم وفاة جدتى بس كان في الصيف وفجأة الناس كلها والبيت أتملي ناس وكأننا في العيد
وكان أخر عيد بالنسبة لي
سلام

Anonymous said...

الله يرحمه وينعم عليه بأعلى درجات الجنة
وربنا يديم عليك الوفاء والذكرى الطيبة
فعلا اجتماع العائلة كل فترة من أروع الأشياء التي تقوي الروابط الأسرية وتذكرنا بمعنى العائلة وأهميتها
ويكفي أنها صلة رحم أوصانا بها نبينا عليه الصلاة والسلام
لكن للأسف , كثير من الناس تخلت عن هذه العادات الطيبة , ربما لانشغالهم بالحياة أو لخلافات بينهم, ولكن هذه الأسباب ليست مبررات لقطع الرحم, فأدعو الله أن يهدي كل من قطع رحمه, فسوف يحاسب.. وشكرا على الموضوع الجميل

Unknown said...

كمان أنا ذكتني بجدي و بيوم وفاته , و انا الحفيد الأكبر من الأبناء الذكور ونفس الشيء سكنا في بيت العائبه الكبير حتى الرابعة من عمري و من ثم إلى المدينة و كنا نزور دار جدي و كان جدي يحبني بالذات و يودني على مائدة الطعام و يسأل عني فقط هل اكلت ام لا و كانت العائلة تروح كلها إلى المدينة ما عدا انا ابقى أيام عندهم و الإجازة الصيفيه أقضيها عند دار جدي الله يرحمهم