Thursday, October 18, 2007

و القابل بالعرش

كانت سفينة الركاب الإيطالية تستعد لدخول ميناء الإسكندرية ، عندما سمع الأمير فؤاد بهذا الحلم لأول مرة . كان ما يشغله وقتها و هو يراقب البيوت البيضاء و صفوف النخيل التي تقترب ، هو كيف يتسلل من السفينة إلى المدينة دون أن يعرف أحد أنه كان مسافرا في أدنى درجة بها ، دون قمرة أو جناح يليق به كأمير و كأخ لسلطان مصر ، كان قد أفلت من روما من ديون القمار و من الراقصات اللواتي كتب لهن شيكات بلا رصيد ، و من قروض محلات الرهونات ، كانت العشرون عاما التي قضاها متسكعا قد قادته إلى الإفلاس ، لم يبق أمامه إلا أن يعود إلى القاهرة ليختفي في صمت ، حتى لا يعلم أصحاب الديون فيها بوصوله و تبدأ المطاردة من جديد . في تلك اللحظة اقترب منه تابعه "إدريس الأقصري" الوحيد الذي بقي معه بعد أن هجره الجميع ، كانت ابتسامته تنير وجهه الأسمر و كان مازال محتفظا بجلبابه و عمامته الجنوبية ، لم يتخل عنهما بالرغم من الأيام الكثيرة التي قضاها في أوربا متسكعا في أثر سيده ، قال له : يا أفندينا ، لقد رأيت رؤيا أريد أن أقصها عليكم ، لم يلتفت فؤاد إليه ، كان ما في داخله من هموم أكبر من مجرد حلم تافه لفلاح ، و كانت صافرة السفينة تزعق طالبة الإذن بدخول الميناء ، و لكن إدريس العنيد أصر على مواصلة الكلام : لقد حلمت أنك أصبحت ملكا لمصر . و انتبه فؤاد فجأة إلى تلك الكلمات المستحيلة من فرط غرابتها ، كان يعرف أن السلطان مريض و لكن له وريثا ، و فوق ذلك فهناك في الأسرة من هم أكبر منه سنا و أكثر نفوذا ، كما أنه كان يشعر دائما بالغربة في ذلك البلد الذي لا يجيد لغة أهله ، و لو كان الأمر بيده لقضى كل حياته في الخارج ، و لولا هذه الديون الثقيلة التي تطارده ما فكر في العودة ، و لكن إدريس عاد يلح بالقول : رأيتكم يا أفندينا و أنتم تجلسون على عرش قصر عابدين ، و رأيت رشدي باشا الوزير الأكبر و هو يقبل أياديكم ، و رأيت كل الأمراء و على رأسهم الأمير عبد المنعم و هم ينحنون أمامكم . صاح في فؤاد أخيرا : اصمت . كانت السفينة قد دخلت الميناء بالفعل ، و فؤاد يرتجف خوفا من أن يتعرف عليه أحد ، و لكن كلمات الأقصري كانت تطن في أذنيه ، توقظ داخله أمنية مستحيلة ، على الرغم من أنها الإنقاذ الوحيد من ورطته و مهانته التي طالت أكثر مما ينبغي ، قال و هو يضحك في جفاف : لقد كبرت و خرفت يا إدريس
و بدآ يستعدان للنزول من السفينة ، و لكن ما إن خرجا من بوابة الميناء حتى كانت المفاجأة الأولى في انتظارهما ، كان هناك بائع صغير يحمل جريدة المقطم الداكنة الأوراق و هو يصيح بأعلى صوته : اقرأ آخر خبر ، الأمير كمال الدين حسين يتنازل عن العرش ، اقرأ المقطم .... و توقف الأمير فؤاد و تابعه ، نظر كل منهما إلى الآخر مذهولا ، اشترى واحدة من الغلام ، ولأن الأمير لم يكن يجيد العربية فقد أعطاها لتابعه الذي أخذ يقرأها بلهجته النوبية المتكسرة ، كان الخبر صحيحا ، و كان الامير كمال الدين حسين قد أرسل خطابا رسميا بذلك ، و لكن كان هناك خبر آخر في نفس الصحيفة ، الأمير عبد المنعم أكبر أفراد الأسرة و ابن الخديو عباس يستعد للذهاب إلى انگلترا ، و هتف فؤاد في خيبة أمل : لقد ذهب ليطالب بعرش أبيه و سوف يظفر به و بقي الأمر ، مجرد حلم لفلاح عجوز ، لم يأبه أحد بالأمير الغريب العائد ، حتى الدائنون كأنهم قد يئسوا من استرجاع ديونهم ، و حتى عندما طلب فؤاد الإذن لمقابلة أخيه السلطان المريض لم يأذن له ، لم يكن يريد أن يمنحه مالا ، و الأهم من ذلك أن يدخله إلى منطقة الضوء و يلفت أنظار الإنگليز إليه ، كان في داخله أمل واهن أن يتراجع ابنه الوحيد ، و كان بالفعل قد أرسل خلفه رئيس وزرائه رشدي باشا ليرجوه و يتوسل إليه حتى يعدل عن قراره و ظل فؤاد حبيس كآبته لا يقدر على التجول أو الذهاب إلى أي مكان ، و بدأ يرمق إدريس الأقصري في عداء ، و أحس إدريس بالذنب فأخذ يخفض رأسه خجلا ، و لكن فؤاد لم يكن يعلم ما يدور في الخفاء ، لم يعلم أن طلب الأمير عبد المنعم قد رفض ، و أن الإنگليز قالوا له بوضوح أن حقه في العرش قد سقط مع خلع أبيه ، و لم يعلم أن كمال الدين حسينغادر مصر بصحبة زوجته الثانية ، الفرنسية الأصل ، بعد أن صرح بأنه مسلم حقا و لكن لا وطن له ، لذا كان غريبا أن يستيقظ في الصباح على دعوة لمقابلة المستر وينگت ، كان طلبا غريبا و مفاجئا من المندوب السامي الذي يأتمر بأمره الجميع ، حضرة جناب اللورد الحاكم الحقيقي لمصر توقف فؤاد أمامه مذهولا ، كان قد ارتدى أفضل ما لديه من ملابس ، و حاول أن يبدو معتدا بنفسه دون أن يكون مفرطا في الغرور ، و لكن وينگت نظر إليه من أخمص قدميه إلى قمة رأسه ، كأنه يريد أن يقدر حجمه قبل أن يقدم له أي عرض ، لم يطلب منه الجلوس ، و لكنه قال في لهجة عسكرية صارمة : سنقوم بدفع كل ديونك
و لهج الامير بالشكر بالتركية و الإيطالية ، و لكنه كان يحس في داخله بالإهانة ، فقد بدا في سلوك الحاكم ، و الذي كان عسكريا سابقا أنه الذي يكره هذا النوع من المقامرين من أمثاله ، ثم قال له أخيرا : لقد اختارتك حكومة صاحب الجلالة لتكون ملكا على مصر أعتقد أن هذا مناسب لك ، لا تعلن هذا الأمر حتى يموت السلطان ، و عليك ان تلتزم بالأوامر التي سوف نوجهها إليك انصرف الأمير الذي أصبح ملكا و هو مذهول ، مصفر الوجه ، لدرجة أن المنتظرين في قاعة المندوب السامي حسبوا أنه تلقى توبيخا مميتا ، كما هي عادة وينگت مع الأمراء المفلسين ، لم يتفوه فؤاد بكلمة واحدة إلا بعد أن عاد إلى بيته ، وجد إدريس يصلي صلاة الظهر ، ظل واقفا حتى فرغ من الصلاة ، تطلع كل منهما إلى الآخر ، و ابتسم فؤاد أخيرا بعد سنوات من العبوس ، و هتف به : انهض يا إدريس بك و لم يستطع إدريس بك النهوض ، ظل جالسا مذهولا على سجادة الصلاة ، و عاد فؤاد يقول : لقد تحقق حلمك الغريب ، و سوف تكون صورتك على أول جنيه تصدره حكومتي و في يوم 4 يوليو 1924 صدر أول جنيه مصري عن الدولة المصرية التي ظفرت باستقلالها الشكلي و هو يحمل صورة إدريس بك الأقصري ، الذي عاش طويلا حتى شهد سقوط الجنيه الذي يحمل صورته و سقوط الملكية في مصر نفسها

4 comments:

Mohamed Shedou محمد شدو said...

حلو موضوع الجنية ده
ما فيش صور له على النت كنت تحطها مع التدوينة؟

على الأقل كان هنالك أمير مفلس
الان لا يوجد أمير ولا وزير يمكن أن يصيبه الفلس والعياذ بالله
عندهم حصانة ضد ذلك

Rain_Drops said...

فيه طبعا يا باشا ، بس اصبر شوية لإن البقية تأتي

محمد العدوي said...

معلش والله صاحبك تكليفه في قنا ومش راكز في مكان لذلك لم اتابع الفترة اللي فاتت المدونات ..

لك عندي حق عرب

ومعزوفة العود اول ما ارجع المنصورة ان شاء الله هبعتهالك ..


تأمر يا فندم ..

( معلش معرفتش اقرا البوست دا لأني داخل من سيبر هنا في مكان ما من ارض مصر

كل الود .

Rain_Drops said...

حق عرب ايه يا عم انت خلاص بقيت صعيدي أصيل
ابقى اجزلي كرسي عندك و زقلطهولي كدا لإني هحصلك قريب ، و ممكن نكون رابطة لمدوني طب المنصورة بالصعيد الجواني و ندخل ميكو معانا بالواسطة عادي
:d