قال الأمير كمال الدين و هو ينتفض : لا أريد هذا العرش
نظر إليه السلطان حسين كامل مذهولا ، كان راقذا فوق فراش مرضه الأخير و قد جف ماء الحياة من بدنه و لم يعد في انتظاره سوى القبر ، و لكن كلمات ابنه ملأته بالغضب ، قال في مرارة : لقد فعلت كل شيء و قبلت كل شيء حتى تجلس حضرتكم على هذا العرش . كان قد قبل الإهانات و قام بالتنازلات و تحمل سخرية الصحف المعارضة و قصائد الزجل المسمومة و نظرات الاحتقار من زوجته و زوجة ابنه و التذلل أمام صغار الموظفين الإنگليز و مقاطعة طلبة المدارس له ، كل هذا قبله السلطان حسين كامل مقابل شيء واحد : أن ينتقل العرش من بعده إلى ولده الوحيد ، و لكنه يقف الآن عنيدا و رافضا ، كانت ملامح الشاب الصغير أقرب إلى شاعر حالم منها إلى أمير تركي عنيد ، كان يميل دوما إلى العزلة و الانطواء ، مع نوع من الرهافة الأنثوية طالما كرهها السلطان ، ولابد أن تربيته وسط خمس من الأخوات البنات قد تركت أثرها في شخصيته ، قال الأمير : لا يهمني ما فعلتم ، لن أجلس على هذا العرش الملعون مادمت حيا . صاح السلطان بكل مافيه من قوة الاحتضار : لن تبقى حيا بعد اليوم ، لأنني سأنهض و أخنق حضرتكم بيدي هاتين . و فوجيء السلطان بابنه يخرج من جيبه مسدسا و يوجهه إلى رأسه و يهتف في صوت صارم : لا تتعبوا فخامتكم أنفسكم ، سأقوم بذلك الآن ، أمامكم .
شهق السلطان ، أحس بقلبه على وشك التوقف ، صاح به : اخفضوا المسدس و اذهبوا إلى حيث تشاءون ، لعنة الله عليكم و على العرش . أغمض السلطان عينيه و تذكر لحظة عرض عليه هذا العرش الضائع ، كانت أتون الحرب العالمية الأولى مشتعلة ، و الإنگليز الذين سلخوا مصر عن الدولة العثمانية ، و فرضوا حمايتهم عليها يبحثون عن حاكم يطيع أوامرهم ، و كان الخديو عباس الحاكم السابق قد غادر مصر دون أن يستطيع العودة ، كان قد راهن على انتصار ألمانيا و حليفتها تركيا في الحرب ، و كانت النتيجة أنه ظل باقيا رغم أنفه بجانب السلطان العثماني و هو يتلقى الهزائم ، و انتهى أمره حين عزله الإنگليز نهائيا . في تلك اللحظة لم يكن الأمير حسين كامل يرفض العرش حقا ، و لو حاول الإيحاء بذلك ، كل ما في الأمر أن زوجته ملك هانم كانت تدين بالولاء لأم الخديو السابق عباس ، و لم تنس أنها كانت واحدة من جواريها ، و ظلت تذكره في الفراش كل ليلة أن قبوله بالعرش هو نوع من الخيانة ، يضاف إلى ذلك أن ابنه الوحيد كمال الدين حسين كان متزوجا بابنة الخديو السابق و كانت هي أيضا ترى أن حماها سيكون الخائن الأكبر إذا قبل هذا العرش ، و لم ينصفه الإنگليز أيضا ، لم يشاءوا أن يعطوه لقب الملك بدلا من لقب الخديو الذي ألغي مع انفصال مصر عن تركيا ، لم يكن الإنگليز يرون في الكون كله إلا ملكا واحدا هو الجالس على العرش البريطاني ، أعطوه لقب السطان ولا شيء غير ذلك ، لا حرية في اختياره لعلم سلطنته و لأعضاء وزارته ولا استقلاله الذاتي ، لم يكن من حقه أن يطلب كان واجبه فقط ان يطيع .
و ظل الأمير حسين كامل يتحجج ، و لكنه أصيب بالذعر عندما اكتشف أن أغاخان يزور القاهرة بدعوة من السلطات الإنگليزية ، لقد حسب أن زعيم الطائفة الإسماعيلية قادم لكي يجلس على العرش ، و ربما كان الأمر كذلك بالفعل ، فالإنگليز كانوا قد ضاقوا ذرعا بتردده ، لذا فقد تخلى فجأة عن تعنته الشكلي و وافق على القبول بشرط وحيد ، هو أن يرث ابنه العرش من بعده ، و حتى هذا الأمر لم يأخذ به إلا وعدا غامضا ، و لم يوافقوا عليه إلا بعد سنوات من التوسلات .
و لكن هاهو كل ما عمله يتردى ، و الأمير العاصي ينصرف من أمامه فرحا بحريته ، و لم يبق أمام السلطان إلا أن ينتظر الموت و هو يردد لنفسه : غدا سوف تتنازع كلاب أسرة محمد علي على هذا العرش الخالي
Saturday, October 27, 2007
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
1 comment:
I really like your writing style... it really is very suggestive, wish you the best of luck.
Post a Comment