Tuesday, September 11, 2007

الغواية الثالثة

كان الخليفة جالسا مع زوجته سعدة الأثيرة إلى نفسه ، كانت هي خائفة من تزمته ، تحمل في داخلها كل مخاوف أهلها من بني أمية ، قالت له : يا أمير المؤمنين ، يا زوجي و ابن عمي ، هل بقى لك شيء من الدنيا تتمناه ؟ تأملها في شرود ، في تلك اللحظة لم يكن يريد شيءا ، و لكنه قبل أن يجلس على هذا العرش الصعب ، كانت له أمنيات و رغبات ، أراد ذات مرة أن يمتلك ذلك الصدى الهائم في الصحراء ، "حبَابة" ، كان ذاهبا إلى الحج و استضافه أحد تجار مكة الموسرين ، و في بيته سمع صوتها الذي ما زال يرن في أذنه حتى هذه اللحظة ، قويا و رائقا و رنانا لا يصاحبه إلا إيقاعات من وتر شاحب ، و عندما رآها اكتشف أنها لا تقل جمالا عن صوتها ، كأنها ريح الصحراء قد شظفتها من كل وجه فتحولت إلى كائن رهيف ، عيون واسعة مليئة متألقة و حزينة و شعر أسود منسدل و رقبة رفيعة ، حين تشدو تبدو العروق الزرقاء الشاحبة خلف جلدها الرقيق أوتار من السماء ، كان اسمها "حبَابة" و لكن الجميع كانوا يطلقون عليها لقب العالية ، لأنها كانت الأعلى قيمة بين كل المغنيات و المحظيات ، و أصر مالكها على ألا يبيعها إلا ب4 آلاف دينار كاملة ، و لم يشفع له أن الشاري هو شقيق الخليفة و من فرط الشغف دفع يزيد كل ما معه من مال ، و استدان من بعض أصدقائه ، و أرسل مكتوبا عاجلا إلى أخيه سليمان بن عبد الملك يطلب منه مددا من المال ، و لكن الخليفة فزع عندما عرف المبلغ المهول الذي دفع في جارية واحدة ، فأرسل إليه مهددا : أيها الأرعن ، تخلص منها فورا و إلا قمت بالحجر عليك و نحيتك عن ولاية العهد
لم تكن للخليفة العين التي يرى بها حبَابة ، ولا الأذن التي يستمع بها إلى شدوها، كان فقط يملك قوة الأمر و الحسم ، و هكذا بروح منكسرة طرح يزيد حبابة للبيع مرة أخرى ، و عرف الجميع ذلك فساوموه عليها و بخسوا سعرها
لم ينس نظرة اللوم و العتاب التي ألقتها عليه حبابة و هي تمضي إلى مصر مع مالكها الجديد ، كانت حلما جميلا لم يستطع الحفاظ عليه و بيع بنصف ثمنه ، تركت حياته خالية بلا شدو ولا جمال ، و ظل هذا الأمر يحز في نفس يزيد حتى بعد أن امتلك ذلك العالم الواسع ، ظلت حبابة هي الأمنية التي عجز عن تحقيقها ، لذا رفع رأسه و تأمل زوجته بنظرة شاردة ، و قال بصوت حالم : حبابة
كان الأمر أكثر من مجرد غيرة زوجة تريد أن تستأثر بزوجها ، كان يخص كل بني أمية و مصالحهم المهددة ، و كانت حبابة هي مفتاح اللغو الذي يبحث الجميع له عن حل
انطلقت الرسل بسرعة إلى كل مكان في مصر تبحث عن التاجر الذي اشتراها ، خصصت سيدة الخلافة المال اللازم لشرائها و تفرغ الوالي الأموي في مصر للبحث عن حبابة و استخلاصها ، و تمت الصفقة في أسرع وقت ، و حملت الفتاة على الخيل السريعة إلى الشام ، لم يكن هناك وقت لأن تحمل داخل هودج مريح فوق ظهر جمل ، كان يجب أن تصل إلى دمشق قبل أن يندم الخليفة على نقطة ضعفه التي كشفها
وقفت حبابة مجهدة و مرعوبة و مغطاة بالرمل أمام زوجة الخليفة ، تأملتها سعدة ، كانت أصغر و أجمل و لكنها كانت رهيفة بحيث لا تثير العداء ، أمرت جواريها بأن يحمموها و يعطروها و أن يلبسوها أفخر الثياب ، و انتظر الجميع
في المساء عندما جلست سعدة إلى الخليفة الذي كان يبدو حزينا و شاردا أعادت عليه السؤال نفسه مرة أخرى: يا أمير المؤمنين ، يا زوجي و ابن عمي ، هل بقى لك شيء من الدنيا تتمناه ؟ قال لقد أخبرتك من قبل ، و صفقت سعدة بيديها ، فانزاح الستر و بدت حبابة من خلفه ، منهكة و بهية و مندهشة ، لؤلؤة أخرجت لتوها من البحر و تأملها يزيد و هو غير قادر على الكلام ، و تركتهما سعدة و لكنها لم تبتعد كثيرا ، وقفت تتنصت خارج الباب ، و قد بدأت الغيرة تدب في قلبها ، لم تكن قد رأت في وجه زوجها مثل هذه العلامات من اللهفة و الفرح من قبل ، لا لها ولا لغيرها
لم تسمع شيئا ، لا أصوات حديث ولا أنغام غناء ولا تأوهات الحب ، ماذا يحدث بالضبط ؟ لم تطق سعدة صبرا ، دفعها فضولها للدخول مرة أخرى ، بالرغم من أنها كانت تجازف بإغضاب الخليفة ، كان لا يزال جالسا في مكانه و حبابة في مكانها ، و لكن هناك سترا منسدلا بينهم كل منهما يشعر بوجود الآخر ، و لكنهما منفصلان
وقفت سعدة مذهولة و هي تقول : ما بالك يا مولاي ؟ هذه حبابة التي ابتغيتها طويلا ، نظر إليها يزيد بعيون غائبة و هو يقول : بلى ، و لكني أخاف الله.

3 comments:

Mohamed Shedou محمد شدو said...

يا ترى هل للقصة بقية
أم أن الغوايات قد اكتملت؟

أنا أؤمن تماماً أن هنالك نفوس لا يمكن للباطل أن يخترقها، لا سيما حينما تتحمل مسؤلية الحكم

أنا متابع لك وفي انتظار البقية لو كانت هنالك بقية

Rain_Drops said...

الحقيقة أن هناك غواية رابعة لها مغزى عميق ، حيث لعب فيها شيوخ السلطان دورا حيويا لإغواء يزيد ، يجب هنا أن أوضح أن صاحب المقال هو محمد المنسي قنديل في عدد مجلة العربي لهذا الشهر ، روحوا اشتروها بقى لو عايزين تكملو

Anonymous said...

Ahlan ya Mahmoud,

Thanks for visiting and contributing to my Blog.

If u want me to add anything to my site, please email me first at
hasriomar13@yahoo.com

Thank you.. ASSALAMUALAIKUM

-HASRIOMARONLINE-
p/s please let ur frens know about my BLOG. Shukran